الأربعاء، 12 أكتوبر 2011

طوائف الشبهات الدينية


هذا المقال هو عبارة عن محاظرة القاها الاستاذ مصطفى مليكان في مؤتمر مؤسسة الدارسات الاسلامية في قم في ايران ، عام 2000.  وهو محقق ومدرس في الفلسفة والكلام في الحوزة الدينية في قم في ايران وكذلك هو مدرس في جامعة قم.

ترجمة احمد القبانجي

مقدّمة:
في هذه الفرصة أروم الحديث عن أهم المسائل التي تتصل بالشأن الديني سواء في العالم الإسلامي أو خارجه، وموضوع المقالة هو «الشبهات الجديدة والآليات الجديدة» في الحقل الديني والعلمي، ولا أريد أن أطيل على السادة والأجلاء ولهذا أختصر كلامي وأبدأ ببيان هذه الملاحظة وهي: هل يمكن الحديث عن شبهات جديدة، وهل التعبير بكلمة «شبهة» لا يختزن مفروضات فكرية مسبقة؟ وهل أنّ هذه المفروضات المسبقة متعالية عن السؤال والاستفهام؟
قلت: إنّ أحد البحوث المهمّة في مجال المطالعات الدينية و التيولوجية هو بحث: «ترتيب الشبهات الدينية».
إنّ الشبهات الدينية يمكن استعراضها بشكل متناثر وليس على أساس منهجية خاصة، ولكن من أجل طرح هذه الشبهات بشكل منهجي وبالتالي معرفة كيفية الإجابة عنها من موقع التحليل السيميائي وبلغة عقلانية فمن الضروري أن نجري تقسيماً وترتيباً لهذه المجاميع من الشبهات، ففي العصر الحاضر وخاصة في الدراسات والمحافل الاكاديمية في الغرب تجري دراسات مفصلة وكثيرة حول نمط تقسيم الشبهات ذات الصلة بالمعارف الدينية. ومن هنا يمكن القول أنّ أي نمط من التقسيم والترتيب للشبهات الدينية لا يمثّل تقسيماً نهائياً كما أنّ الأوساط والمحافل الغربية لا تقتصر على تقسيم وترتيب معين. وبدوري أقترح ترتيباً خاصاً أعتقد أنّه أفضل التقسيمات الموجودة وبالتالي يتمكن علماء الكلام من تقديم أجوبتهم واطروحاتهم على كل مجموعة من هذه الشبهات بشكل مبرمج، ومن هذا المنطلق أستعرض في هذه المقالة جغرافية هذه الشبهات.

الحقوق الثلاثة للتعاليم الدينية:
في البداية لابدّ من القول إنّ الدين، سواء الإسلام أو غيره من الأديان الغربية أو الإبراهيمية أو الشرقية، يتضمن ثلاثة مستويات من التعاليم والمقولات الدينية:
الأول: أن الدين يقدم تفسيراً لعالم الوجود وموضع الإنسان منه، ثم يقول للإنسان: أنت مخلوق في هذا العالم ولك هذه المنزلة والمكانة في الوجود، وهناك مجموعة من التعاليم الدينية الواردة في تفسير العالم وموضع الإنسان ومكانته من هذا العالم، ويطلق على هذه المقولات «عقائد الدين» وعلى حدّ تعبير الغربيين أنّها «دوغمائيات الدين».
الثاني: من شؤون الدين أنّه يقول للإنسان: الآن وقد عرفت معنى وتفسير عالم الوجود ومكانتك منه فعليك أن تتحرك بمنهجية خاصة في واقع الحياة وأن تعمل بهذه التوصيات التي يطرحها الدين في اطار مجموعة من التعاليم تمثّل القسم الثاني للدين أي «التعاليم الأخلاقية».
الثالث: وهو الذي يجسد القسمين السابقين على شكل مجموعة من الأعمال والسلوكيات الرمزية والشعائرية، ومجموعة هذه الأعمال كالصلاة والصوم والحج و...، يطلق عليها «عبادات الدين» وعلى هذا الأساس نقول إنّ الدين في بدايته يمثّل تفسيراً لعالم الوجود ومنزلة الإنسان فيه، وبعد ذلك وعلى أساس هذا التفسير يوصي الإنسان باتباع نمط خاص من السلوك الأخلاقي في الحياة، وفي المقام الثالث يعمل على ترجمة هذا التفسير وهذه التوصية على شكل أعمال رمزية وشعائرية حيث تتجلى هذه الأعمال الرمزية بأعمال عبادية وممارسة الطقوس الدينية، ومن هذه الجهة يمكن القول إنّ الدين ينقسم إلى ثلاثة أقسام: العقائد الدينية، الأخلاق الدينية، والعبادات الدينية. وعلى ضوء ذلك يمكن ترتيب الشبهات المطروحة فيما يخص المعارف والمقولات الدينية على أساس هذا التقسيم، أي إلى: شبهات تتعلق بالعقائد الدينية وبالأخلاق الدينية وبالعبادات الدينية. وبالإمكان تقسيم هذه الشبهات إلى ثمانية أقسام أو ثمانية طوائف وفئات، وكل طائفة منها ناظرة إلى بعد من أبعاد الدين وجوانبه.
وأختصر كلامي بهذا المقدار ولا أريد التوغل في بيان الأدلة على هذا التقسيم والترتيب لئلا يطول بنا المقام.

1 ـ المنبع غير المعرفي للدين.
إنّ أول نقطة تثار هنا هي السؤال عن «منبع الدين»، وهذه الشبهة تثير فينا الحذر واليقظة من أنّ الدين ربّما يكون له منشأ غير معرفي، وأنّ الإنسان المؤمن إنّما يبني صرح دينه وإيمانه على أساس غير معرفي «المتدين بالمعنى العام أو المتدين بدين خاص كالمسيحية أو الإسلام» فلو سألنا: لماذا يعتقد الناس بأنّ مجموع زوايا المثلث تساوي 180 درجة؟ فسوف يقال: لأنّ علماء الرياضيات أثبتوا ذلك بالدليل، ومعنى ذلك أنّ اعتقاد الناس بأنّ مجموع زوايا المثلث تساوى 180 درجة لم يجانب الحق والصواب، لأنّ العوامل المعرفية قادت الإنسان بهذا الاتجاه والاعتقاد بهذه المقولة، وعليه يمكن الاطمئنان من أنّ هذه العقيدة لا تقوم على أساس خرافي وغير معرفي.
مثال آخر: إذا سألتم مني هذا السؤال: من أين حصل لك الاعتقاد بأنّك ولدت في اليوم الفلاني من الشهر الفلاني من السنة الفلانية؟ فأنا بدوري، ومن خلال إجراء بعض التحقيقات، أصل إلى هذه النتيجة وهي أنني ولدت في اليوم الفلاني والشهر الفلاني وفي السنة الفلانية. فإذا كنت قد أجريت هذه التحقيقات واقعاً وحصلت لي هذه المعلومات فإنني يصح أن أعتقد بأنّ ولادتي كانت في اليوم والشهر والسنة المذكورة وأنّ هذا الاعتقاد يملك قيمة معرفية، ولكن إذا لم أكن قد أجريت مثل هذه التحقيقات فربّما أكون متوهماً في أنني ولدت في اليوم والشهر والسنة الفلانية وأنّ إعتقادي هذا ناشيء من تلقين الوالدين مثلاً. فإذا اشتدت هذه الشبهة في ذهني فسوف تخلق القلق في نفسي، لماذا؟ لأنّ الإنسان عندما يشعر أنّه خدع في هذه المسألة أو المعلومة فإنّ ذلك يبعث فيه الألم والاضطراب، وأحد أكبر العوامل في الكثير من أشكال الاضطراب والقلق النفسي هو أنّ المريض يجد نفسه فجأة أنّه قد خدع.
هذا القسم من الشبهات يطرح هذا السؤال وهو: هل أنّكم معشر المتدينين تعتقدون بمقولات دينية من موقع معرفي «مثل الاعتقاد بأنّ مجموع زوايا المثلث تساوي 180 درجة» أو أنّ إيمانكم ناشيء من موقع التلقين والخداع وبدافع المصالح الفردية والفئوية وأشكال الاحساسات النفسية من الحبّ و الكراهية والخوف والأمل وما إلى ذلك، بحيث تكون عقائدكم وليدة هذه الأمور غير المعرفية؟
ولكن ما هي هذه الأمور غير المعرفية؟ إنّ هذه الأمور بدورها تنقسم إلى ثلاثة مجموعات كلية:
1 ـ الأمور غير المعرفية الفردية ـ الجسمانية.
2 ـ الأمور غير المعرفية الفردية ـ النفسانية «الروحية ـ النفسية».
3 ـ الأمور غير المعرفية الاجتماعية.
فبعض الأشخاص زعموا أننا في اعتقادنا بالدين متأثرون بالأمور الفردية والجسمانية، وهناك من يعتقد بأنّ ترشح غدة معينة في البدن تثير في الإنسان الغريزة الجنسية ومع قلّة هذا الترشح تضعف فيه الغريزة الجنسية، وهكذا توجد غدة في الإنسان تثير افرازاتها الميول الدينية، ولكن هذا المطلب ربّما يكون في غاية الافراط، إلاّ أنني أطرح هذه الملاحظة هنا، وهي أنّه ربّما يظهر شخص ويأخذ هذه المقولة بجدية وبالتالي يقول إنني أتحرك في سلوكي الديني على أساس افرازات وترشحات الغدد.
إنّ هذا النوع من الشبهات التي تتصل بمنشأ الدين ذو أهمية كبيرة وتستدعي تحليلاً علمياً دقيقاً، فإنّ علماء الفسيولوجيا وعلماء النفس وعلماء الاجتماع طرحوا الكثير من الدراسات التي تخص تأثير العامل الفردي والجسماني في صياغة المعرفة العقائدية.

2 ـ الشبهة على أساس التحوّلات والمتغيرات التاريخية
بعض الشبهات نطلق عليه شبهات من «النوع الثاني»، ولتوضيح هذه الشبهة لابدّ من القول إنّه وقعت تغييرات كثيرة على طول المسار التاريخي في المعرفة الدينية، فالرؤية الدينية الحالية تختلف عن الرؤية الدينية التي كانت قبل مائة عام، وعامة المتدينين يتصورون أنّ الدين الذي يعتقدون به الآن هو ذات الدين الذي أراده الله منه أو جاء به مؤسس ذلك الدين، وهذا التوهم ناشيء من عدم وجود مطالعات ودراسات تاريخية، ومن خلال المطالعات التاريخية نفهم بأنّ الإسلام مثلاً كان في النصف الأول من القرن الأول بشكل معين وفي النصف الثاني من ذلك القرن تحوّل تدريجياً إلى شكل آخر، وأيضاً في القرن الخامس ظهر بصورة أخرى وهكذا، فالكثير من الأمور التي تعدّ الآن من مسلّمات الإسلام لم تكن في بعض القرون السالفة من الحقائق الثابتة والمسلّمة وبالعكس. وقد وقعت الكثير من التحوّلات والمتغيرات في عمق المعرفة الدينية على مستوى الإثبات والنفي، أو على مستوى القبض والبسط، أو التهويل والتوهين على طيلة الامتداد التاريخي لهذا الدين، فأحد سياقات الدين هو ما نعتقده الآن ونؤمن به، وفي هذا الزمان ربّما يطرح عليك هذا السؤال: ما هو الدليل على أنّ الدين بشكله الحالي أفضل وأرجح من الدين قبل ثلاثمائة عام؟
عندما نلتفت إلى التحوّلات الواقعة في الفكر الديني تبرز أمامنا هذه الشبهة وهي أننا نعيش الترجيح بلا مرجح وقد اخترنا هذا النمط من الدين بدون الأخذ بنظر الاعتبار ما طرأ من تحوّلات على الدين في تاريخه.
وربّما يقال في مقام الجواب إنّ الدين مثلاً يماثل علم الفيزياء وقد حدث تطور علمي مشهود في الفيزياء ولكن في نفس الوقت فالفيزياء في أوائل القرن الواحد والعشرين هي تلك الفيزياء. فلو قلنا بهذا الكلام وأنّ الدين يشبه الفيزياء والعلوم التجريبية «سواء العلوم التجريبية الطبيعية أو العلوم التجريبية الإنسانية» فحينئذ تترتب على ذلك لوازم مهمّة جدّاً لا يمكن الالتزام بها.

3 ـ الشبهة بسبب ضعف الإثبات والاستدلال
هل أنّ المقولات الدينية قابلة للإثبات والبرهنة العقلانية؟ هل بإمكاننا إثبات وجود القيامة والحياة بعد الموت أو وجود الله كما يمكننا إثبات أنّ مساحة الدائرة تساوي مجذور نصف القطر في عدد 14 /3 ؟ وهل يمكننا إثبات المعنى للحياة والعالم والهدفية في الكون كما يمكننا إثبات قضايا الهندسة مثلاً؟ وهل يمكننا إثبات أنّ العالم يملك نظاماً أخلاقياً؟ هل يمكن إثبات أنّ لهذا العالم خالق يتمتع بالعلم المطلق والقدرة المطلقة والخير المطلق؟ هل يمكن إثبات قضية: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّة خَيْراً يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّة شَرّاً يَرَه)
بمجرّد أن يسمع الشخص هذه المقولات الدينية سواء في دائرة الكليات أو الجزئيات فسوف يثور في ذهنه هذا السؤال: هل يمكن إثبات هذه المقولات بأدوات العقل والمنطق؟
وكذلك يطرح هذا السؤال أمام الشخص المتدين وهو: إذا لم تكن هذه المقولات المفاهيم قابلة للإثبات العقلاني فإنّ التدين بدين معين أو التدين بشكل مطلق لا يقوم على أساس متين، وفي الواقع يمثّل عملاً ليس له مسوغ، وهذا يعني أنني لا أملك امتيازاً عن الأشخاص الذين لا يؤمنون بدين معين أو يدينون بدين غير ديني.

4 ـ الشبهة من خلال آليات الجدل بين مكتسبات العقل البشري ومعطيات الوحي
الطائفة الرابعة من الشبهات تبرز على السطح عندما يقع تعارض بين «المقولات الوحيانية» مع «معطيات الفكر البشري» فماذا نصنع؟
لا شك أنّه لا يوجد أي دين بدون شريعة وأحكام وتعاليم مهما كانت قليلة، فجميع الأديان تملك مجموعة ومنظومة من الأحكام والتعاليم، فإذا قارنا هذه التعاليم المذكورة في النصوص «من قبيل النصوص المقدّسة للأديان والمذاهب» مع معطيات العقل البشري ورأينا وجود تعارض بينهما «مثلاً يقول الدين: «أ = ب» ولكن العقل البشري يقول: «بعض أ ليس ب، أو لا شيء من أ = ب» ففي هذه الصورة بأيّهما نأخذ ونلتزم؟
ولا يمكن اقتناص جواب هذا الجواب من الدين لأنّه في هذه الصورة لو طرح العقل جواباً عن هذا السؤال غير جواب الدين ألا يقع التعارض من جديد بين المعلومة الوحيانية والمعلومة البشرية؟ وماذا نعمل في صورة وجود حالة ذات جهتين، أو بتعبير آخر يوجد تسلسل من طرف ودور من طرف آخر؟ ألا يقع التعارض بين المقولات الوحيانية والمعارف البشرية؟
حسب الظاهر أنّ مثل هذا التعارض موجود، وأقول «حسب الظاهر» أي أنّ كل من يقرأ النصوص الواردة في القرآن والروايات يدرك جيداً أنّ ظاهر هذه النصوص يتعارض مع الكثير من معطيات الفكر البشري والعلوم الحديثة، وربّما تقول إنّ طريق الحلّ واضح وأنّ هذا التعارض كما تقدّم ظاهري وغير واقعي.
الحل الآخر هو أن يقال بأنّ هذا التعارض ليس ظاهرياً بل واقعي، فالقرآن واقعاً يريد أن يقول شيئاً معيناً والمعارف البشرية تقول شيئاً آخر، فأي منهما هو الصحيح ولابدّ من الالتزام به؟
هذا التعارض بدوره ينقسيم إلى ثلاثة طوائف:
فأحياناً يقع التعارض بين قضية عقلية وقضية وحيانية أحدهما يحصل عليها الإنسان بواسطة قواه الإدراكية والأخرى يحصل عليها من نصوص الكتاب المقدّس، وأحياناً أخرى لا يقع التعارض بين القضايا الدينية والقضايا العقلية بل يقع التعارض في لوازم القضايا الدينية ولوازم القضايا العقلانية أو بين المباني والقبليات للقضايا الدينية والمباني والقبليات للقضايا العقلانية.
الطائفة الثالثة، أن يقع التعارض بين روحية التدين والروحية العقلانية.
وكل واحد من هذه الطوائف الثلاث للتعارض تتفرع بدورها إلى عدّة فئات ومجاميع.

5 ـ شبهة في موقف الدين من العقل
الشبهة السابقة تنقلنا إلى شبهة خامسة وهي: لماذا يتحرك الدين في مواجهة العقل باتجاهين مختلفين؟ وكيف يمكن فهم وقراءة هاتين الحركتين للدين في مقابل العقل؟
إنّ جميع الأديان والمذاهب ـ الشرقية منها والغربية ـ تعيش هذه الحالة وهي عندما يتفق العقل مع المعلومة الدينية ويثبت صحتها بالدليل يقال إنّ العقل نعمة إلهية كبيرة وموهبة منحها الله للإنسان، ولكن بمجرّد أن يتحرك هذا العقل وبتلك الأدوات والوسائل من موقع الإستدلال وإثبات قضية خلافاً لما ورد في المعرفة الدينية، يقولون: إنّ هذا ليس عقلاً بل هو شيطنة، أي «كانين ريزن» يعني خداع العقل، وأنّ هذا عقل شيطاني وليس بعقل رحماني وأمثال ذلك!
هنا نطرح هذا السؤال: ما هو الفارق بين هذين العقلين؟ فمادام العقل يتحرك على مستوى إثبات «وجود الله» فهو عقل رحماني وموهبة إلهية وأعظم نعمة إلهية على الإنسان، ولكن عندما يقول هذا العقل نفسه بأنني لا أرى نظاماً جيداً في العالم أو إذا كان هناك نظام فإنّه نظام مقترن مع أشكال الفوضى وعدم النظم، فسوف ينطلق البعض ليقول: إنّ هذا العقل عقل شيطاني!
السؤال إذن: ما هو موقف الدين من العقل؟ فنحن لا يمكننا أن نتخذ موقفين متناقضين تجاه العقل في آن واحد «نكيل بمكيالين» وبالطبع فبإمكان الإنسان أن يصرّ على مقولة معينة ويجمّد عقله، ولكن في الحالات الطبيعية لا يمكن اسدال الستار على العقل، فإذا كان العقل حقيراً وشيطانياً ومراوغاً فإنّه في جميع المجالات والمساحات الفكرية يكون كذلك، فإذا تحرك على مستوى إثبات وجود الله فينبغي أن لا ننخدع بكلامه وإثباته هذا، وكذلك عندما يقول إنّ العالم يفتقد للنظام فأيضاً لا ينبغي أن نهتم لكلامه وبالتالي يكون حكمه حكم القاضي المعزول.
على هذا الأساس نحن نرى نحوين من التقييم بالنسبة للعقل، فالأديان لا يمكنها أن تعمل على انكار العقل تماماً، لأنّ انكارها للعقل يؤدي إلى نفيها وإلغائها، وهذا الموقف الثنائي والمتناقض «بارادوكسيكال» يعكس أحد الشبهات القوية في حقل المعرفة الدينية.
وقد ذكرت في بداية كلامي أنّ هذا الترتيب للشبهات يقوم على أساس أنّ كل واحدة من هذه الشبهات تندرج في دائرة معينة من دوائر المعارف والمقولات الدينية، والشبهة المطروحة هنا ترتبط بما نصطلح عليه بـ «أبستمولوجيا الدين».

6 ـ الشبهة في حقل وظائف الدين
الشبهة السادسة، أنّ الدين يواجه حالياً بديلاً له في دائرة الوظيفة المتوقعة منه، وعليه فمضافاً للوظيفة التي كانت للدين سابقاً فقد برزت له وظيفة أخرى أيضاً، وهي أنّه يجب عليه إثبات تفوقه وأفضليته في أداء دوره على المنافس له، فأنا عندما أتحرك بدون وجود منافس فيجب عليَّ أن أقوم بعرض خدماتي وأداء دوري فقط، ولكن مع ظهور البديل المنافس لي في الميدان فيجب عليَّ تطوير بضاعتي للناس بحيث تكون أفضل من بضاعة المنافس. فالتطور الذي أحرزه الإنسان في العلوم التجريبية وبعض العلوم «باراسايكولوجية parasicology»، جعلته يحصل على الكثير من المعطيات التي كان يحصل عليها من الدين من غير الدين، وعليه، ما هي أرجحية الدين على غيره؟
على سبيل المثال: عندما أقوم أنا المسلم بمراسم الاحياء في ليلة معينة وأتهجد وأصلي وأدعو إلى الصباح ففي صباح تلك الليلة أشعر بحالة مريحة في قرارة نفسي وأنني أصبحت خفيفاً، وأشعر بسكينة واستقرار روحي أكثر من السابق، وهذا هو دور الدين في حياتي، ولعل قبل 150 عاماً لم يكن هناك غير الدين يحقق للإنسان هذه الحالة الروحية الإيجابية، ولكن عندما اراجع في هذا الزمان عالم نفساني وأشعر بعد ذلك بنفس تلك الحالة الإيجابية التي أشعر بها عند رجوعي من المسجد، فهنا يثار في ذهني هذا السؤال: ما أرجحية الدين؟
هذا نموذج واحد من الموارد الكثيرة التي نعيشها وربّما لا نلتفت إليها، مثلاً في السابق كان الناس يستاكون بعودة الاراك بسبب استحباب هذا العمل شرعاً والآن لا يستاك أكثرنا بهذا المسواك، لا من جهة أننا ـ نعوذ بالله ـ أعرضنا عن الله، بل سبب أننا نرى شيئاً آخر حلّ محلّ عودة الاراك.

7 ـ الشبهة بسبب النتائج السلبية للدين
الشبهة السابعة ما يتصل بالآثار والنتائج الفردية السلبية على المتدين، وقد قام بعض المفكرين الذين يقولون بوجود معطيات وآثار إيجابية وسلبية للدين باحصاء هذه المعطيات والآثار السلبية وقد أحصيت منها سبعة عشر أثراً سلبياً لا يمكن استعراضها باجمعها هنا، وبعض هذه الافرازات السلبية، كما يقول هؤلاء، يتصل بكيفية قراءة المتدين لذاته ومعرفة نفسه، وبعض الآثار والافرازات الأخرى يرتبط بكيفية فهم ورؤية الإنسان للآخرين، وبعضها يرتبط برؤية الإنسان لعالم الوجود، وبعضها تنشأ من الاعتقاد بالله.
وهناك افرازات ونتائج سلبية أخرى يمكن تصورها في النسبة بين التدين والإيمان بالله، فالبعض يعتقد أنّ الإنسان إذا آمن بالله ولم يعتقد بدين معين فإن ذلك من شأنه تصحيح تصوره عن الله ويكون له تصور عن الله أفضل ممّا يستوحيه الإنسان المتدين من حقل المعرفة الدينية، ومن هنا فإنّ الله في عقيدة «الدوئيت» أفضل وأرحم وألطف من الله في التصور الديني، و«الدوئيت» هم الأشخاص الذين يعتقدون بالله فقط ولا يلتزمون بأي دين  من الأديان.

8 ـ الشبهة من خلال خواء الرموز والمناسك الدينية
الطائفة الثامنة والأخيرة من الشبهات حول الدين هي أنّ العبادات الدينية إنّما تكون مفيدة وفاعلة في حياة الإنسان عندما تملك البعد الرمزي والسيماتيكي، ولكن عندما يفقد المتدينون في عباداتهم هذا الجانب الرمزي والدلالي في العبادات فإن الاصرار عليها يعتبر عملاً عبثياً بل مضحكاً.
لنفرض أنني عندما أهوي للسجود في صلاتي أعيش واقعاً حالة التصاغر والذلة أمام عظمة الوجود أو عظمة الذات المقدّسة، وهذا الصغار والضعة أشعر بها في أعماق قلبي وحينئذ أجد نفسي أهوي إلى الأرض، فهذا العمل يمثّل عملاً رمزياً يحكي عمّا وراءه من المعنى، وعلى هذا الأساس فالمعنى الدقيق لكلمة الرمز أو الدلالة «السيميائية» تعني أنّها تشير إلى شيء آخر. ولكن على فرض أنني في حال السجود أرى نفسي أعلى من الآخرين وأعيش التفوق المزعوم، فإنّ مثل هذا السجود لا يمثّل سوى العبثية ويكون عملاً مضحكاً لا أكثر.
ومثال أوضح: عندما أسير في الشارع وأراك وأسلم عليك وعلى سبيل الاحترام أرفع قبعتي لك أو أضع يدي على صدري وأنحني قليلاً إلى الأمام، فهذا العمل يمثّل عملاً رمزياً ودلالياً «سمبليك» أي أنني أشعر في قرارة نفسي حالة الاحترام بالنسبة لك أو حال المودة والحب أو أرى العظمة والعزّة في شخصيتك، فهذا العمل هو عمل رمزي، بمعنى أنني أشعر في قرارة نفسي باحساس معين تجاهك، وبما أنني لا استطيع أن اجسد هذا المعنى في الخارج الموضوعي فإنني أشير إليه بهذه الحركات الرمزية بأن أرفع قبعتي مثلاً، ولنفرض أنني لم أكن أحس بالمحبّة والاحترام تجاهك ففي هذه الصورة إذا رفعت قبعتي فسيكون هذا العمل مضحكاً وسخرية.
ربّما يقول البعض: صحيح أنّك لا تشعر تجاهه بالمحبّة أو الاحترام ولكن خصوصية مثل هذا الاحترام أن يبعد شرّه عنك، فإذا اتفق أن راجعت الدائرة أو المؤسسة التي يعمل فيها فإنّه سيقوم بتنفيذ طلباتك، فالأشخاص لا يعلمون بنوايا الآخرين وربّما يؤدي هذا الاحترام الظاهري إلى تحقيق فائدة لك.
ولكن هذا قياس مع الفارق، فالله يعلم ما يجري في باطننا وروحنا، وعليه فعندما أهوي للسجود وأرى أنني لست عبداً لله فهذا العمل يصدر منّي بدون دلالة رمزية، وعليه فلا فائدة فيه وخاصة مع الأخذ بنظر الاعتبار أنّ هذا العمل غير الرمزي يصدر من الإنسان تجاه عالِم الغيب والشهادة والعالم بجميع خفايا وزوايا الإنسان.
وطبقاً لهذه الشبهة فإنّ أحد أشد الأمور التي تواجه التدين والإيمان هو أنّ الأعمال العبادية في عين كونها تملك جهة رمزية وتعتبر «آية» وعلامة، فإنّها من جهة أخرى ربّما تكون كالفلم الكوميدي المضحك الذي يصدر من الإنسان بصورة مكرورة.
إنّ كل واحدة من هذه الطوائف الثمانية من الشبهات تتصل بجانب معين من المعرفة الدينية ولابدّ من السعي لايجاد الحلول والأجوبة الشافية لها من خلال التعمق والدقة واستخدام المناهج المختلفة في التيولوجية الدينية.
ومن الضروري الالتفات إلى أمرين:
1 ـ عندما نقول أنّه لابدّ من السعي وبذل الجهد في هذا الإطار المعرفي فإنّ مرادنا السعي الجاد مع الالتزام بالقيم ومقتضيات الآداب، لا أن يتحرك الإنسان من موقع الخصومة وإصدار أحكام باقصاء الآخر أو استخدام الكلمات الركيكة واللامسؤولة، فالواجب أن نتحرك من موقع التحقيق والبحث والمسؤولية.
يقول الفيلسوف والقسيس البريطاني المعروف «جوزيف باتلر» في أحدى مواعظه في الكنيسة: «أيّها المؤمنون، اعلموا أنّ الواقع لا يتبع آراءكم بل إنّ آراءكم هي التي يجب أن تتبع الواقع والحقيقة». فلو أننا قلنا مليون مرّة بأنّ الآن هو فصل الشتاء فإنّ الواقع لا يتغير بهذا الكلام، فالحقيقة الواقعية هي الموجودة لا ما أريد وما أحب أن يكون وفقاً لما أعتقد، وعليه فإنّ عقائدنا يجب أن تكون تابعة للواقع الموضوعي كالظلّ التابع للشخص، لا أننا نريد من الواقع أن يسير وراء ميولنا وآراءنا، وكل من يريد تبعية الواقع له فإنّ حاله حال العنزة التي تضرب بقرنيها الصخر.
2 ـ إننا عندما نقول بضرورة التحرك وبذل الجهد في هذا المجال فهذا لا يعني أن نسعى لإثبات صحة عقائدنا وأنّها كما في السابق لا يدنوها الإشكال والسؤال، فعملنا ينبغي أن ينطلق لتحقيق أمرين: أحدهما الدفاع عن عقائدنا التي لازالت صحيحة ومعقولة، والآخر رفع اليد عن الالتزام والتشبث بالعقائد والآراء التي نراها غير صحيحة وغير معقولة.
نسأل الله تعالى أن يهب لنا هذه الصفات الثلاث: طلب الحق، طلب العدالة، الأخلاق.
*    *    *


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق